فيفيان بالاكريشنان وزير خارجية سنغافورة: زيارة الرئيس القاهرة تعكس أهمية مصر
سنغافورة : محمد صابرين
سنغافورة بلد هادئ.. يدرك عمق الروابط التى تجمعه بمنطقة الشرق الأوسط ومصر، ورغم تجربة النجاح الكبيرة إلا أن قادته يؤكدون دوما «نحن بلد صغير، ولسنا نموذجا لأحد، ولا يمكننا إعطاء أى أحد الدروس فيما ينبغى فعله»، وفى جلسة حوار دامت طويلا مع 6 صحفيين من مصر والسعودية والإمارات وسلطنة عمان وتركيا ـ كنت من بينها لم يتوقف وزير خارجية سنغافورة الدكتور فيفيان بالاكريشنان عن الشرح، والغوص فى أعماق العلاقات، وأبرز القضايا سواء قضية الإرهاب وسبل مكافحته، أو سبل إقامة «المجتمع العادل»، والنزاعات فى الشرق الأوسط، وقانون جاستا.. وغيرها من القضايا والتكتلات الصاعدة مثل الآسيان ـ التى تضم 10 دول من بينها سنغافورة ـ
ولقد حاولت الاختيار لعرض رؤية دولة اختارت لنفسها أن تحلق بعيدا، ففى الوقت الذى تزايد الحديث فيه عن «المدن الذكية» فإن سنغافورة اختارت هدفا أبعد «الأمة الذكية».. والآن إلى نص الحوار:
… الشهر المقبل سوف تحل الذكرى الـ50 للعلاقات مابين مصر وسنغافورة.. ما هو تعليقكم؟
نعم فعندما يذهب رئيس الجمهورية السيد تونى تان إلى مصر، فى نهاية الشهر الحالي، فإن هذا يعكس أهمية مصر، فضلا عن أننا نعترف بهذه العلاقة الحيوية والممتدة مع مصر، ومن ثم فإنه يجب أن تشعروا بأنكم فى بلدكم.. فى سنغافورة.
.. . لقد ذكرت فى بداية الحوار أن العلاقات مع دول الشرق الأوسط قديمة وتاريخية، لكن تبدو «ودية» وليست «جوهرية»، ترى هل السبب هو السياسة الخارجية لأى من الطرفين؟
{{ إن الأمر يتوقف على ما تعنيه بالجوهري، إذا ما نظرت الى الأرقام، وإلى المعلومات، سواء أرقام التجارة أو حركة السياحة، إذا مانظرت الى السفر، إذا ما نظرت إلى الروابط.. فإننى أعتقد أنها جوهرية، ومؤخرا فإن الأرقام انخفضت ولكن ذلك بسبب انخفاض أسعار البترول، وعلى سبيل المثال فإن أرقام التجارة وصلت إلى نحو 45 مليار دولار العام الماضي، ولكنها كانت 70 مليار دولار عادة، إلا أن الانخفاض كان بسبب أسعار البترول، ولذا فأننى أعتقد أن علاقاتنا بدول الشرق الأوسط «جوهرية» ومهمة، ولهذا السبب نحن لدينا مجالس مشتركة على مستوى عال مثلما فى مصر والرياض ومسقط وقطر ودولة الإمارات.
>> هل ترون صيغة محددة للتعاون مابين مجموعة دول الآسيان ودول الجامعة العربية.. اتفاقية تجارة حرة مثلا؟ وأمر آخر لقد تحدثت مع سفيركم بالقاهرة عن حاجتنا لمزيد من التفاعل، وإحدى الأفكار هى اقامة منتدى للحوار الإعلامى مابين الآسيان والشرق الأوسط؟
{{ نعم، ولهذا أنتم هنا، نحن نريدكم أن تتفاعلوا معنا.
>> لقد كنت هنا عندما بدأت مصر وسنغافورة عملية الحوار مابين الكتلتين، ومن بعدها لم يحدث شيء؟ ونحن نرغب فى إحياء هذه العملية؟
{{ يجب علينا الاستمرار فى المحاولة، أولا فى اتفاقيات التجارة الحرة، ونحن لدينا اتفاقيات مع دول مجلس التعاون والأردن وتركيا، وإذا ما استطعنا أن نوسع هذه العملية إلى المستوى الإقليمي، فإن هذه خطوات كبرى نؤيدها، إذن الاجابة نعم، نحن نؤيد اتفاقية تجارة حرة، ونؤيد حرية حركة لانتقال الناس ورؤوس الأموال عابرة للحدود، وهو ما يوفر فرصا عظيمة.
>> نحن بحاجة إلى آلية، وذلك نظرا لأن الكثير من الأشياء التى بدأت مابين مصر وسنغافورة ـ كما سبق أن ذكرت ـ ولكن لم تأخذ الزخم المطلوب، وبصراحة فإن مصر مستعدة وتؤيد انعقاد قمة على هذا المستوى الكبير مابين الكتلتين؟
{{ نحن نؤيد التعاون وهذه الأفكار، إلا أننى أتفق معكم وأنت محق فإن الأمور بطيئة للغاية، والنقطة المهمة هنا نحن نؤيد ونرغب أيضا، والأمر يحتاج الى «إسراع وتيرة العمل».
>> إن الحوار مابين الشرق الأوسط ومجموعة الآسيان قد عقد اجتماعين منذ بدايتها؟!
{{ أعتقد أننا بحاجة لأن نكون صبورين، وأن نحاول وألا نستسلم لمجرد أنه ليست هناك نتيجة فورية، الأمر الآخر الذى أريد قوله إننا نعمل من خلال برنامج التعاون السنغافوري، حيث نرحب بقدوم موظفى الخدمة المدنية والبيروقراطيين إلى سنغافورة لدراسة نظامنا، وهناك وسيلة ارتباط أخري، فنحن نريد مزيدا من رجال الأعمال، ومن ثم نأمل أن اتفاقيات التجارة الحرة والاجتماعات عالية المستوى سوف تعزز التعاون، إن ما نحتاجه هو لقاءات رجال الأعمال برجال الأعمال، ولقاءات الناس من كلا الجانبين.
>> لكن عندما تحدث اجتماعات على أعلى مستوى وتستخدم الإعلام بقوة.. فإن ذلك سوف يصاحبه المزيد من المستثمرين، مرة أخرى نحن بحاجة إلى آلية؟
{{ نعم، أنا أتفق معكم، ولكن على أى حال فإن سبب حضوركم إلى هنا ليس الاستماع فقط إلينا، بل للتجول والحديث إلى الناس، ورؤية المكان، ورؤية أننى لا أعطيكم مجرد كلمات، وانما ما ترونه هنا هو ما نحب أن نعتقد أننا نوجد «نموذجا عمليا للمستقبل»، هذا المستقبل الذى يمكن للناس أن يعيشوا فى سلام فى ظل لغات وأديان عدة مختلفة، ومستقبل يتعلم فيه الشباب ولديهم الأمل فى مستقبل أفضل، ومستقبل يوجد به مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
>> لقد صرح وزير دفاع سنغافورة بأن تهديد داعش والجماعات المتطرفة فى جنوب شرقى آسيا يتزايد، وأن أعداد «الخلايا النائمة» لداعش تزايدت خلال العامين الماضيين بصورة أكبر من نمو القاعدة خلال سنواتها الخمس الأكثر نشاطا بالمنطقة، كيف تواجهون هذا الخطر، والأمر الآخر يتعلق بأوروبا وأمريكا، حتى هنا فى جنوب شرقى آسيا، ورغم حقيقة أن بلدكم «نموذج».. لماذا يشعر البعض بالتهميش والرغبة فى أن يكونوا ضد المجتمع؟
{{ مرة أخرى إنها مجموعة من الأسئلة الأساسية، والتى يمكن الاجابة عليها على عدة مستويات، وأولا أحب أن أعطيكم «سياقا تاريخيا»، ففى هذا الجزء من العالم فإن إندونيسيا هى أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان فى العالم، كما أن ماليزيا بها غالبية السكان من المسلمين (ربما 60% أو 70%)، ولكن فى سنغافورة فإن المسلمين يمثلون 15% من عدد السكان، وبالطبع نظرا لعلاقاتنا التاريخية، كان هناك دائما نوع من تبادل الأفكار والمعلومات والنفوذ مابين الشرق الأوسط ومنطقتنا.
وهذا يفسر لماذا إذا ما وقعت أشياء فى الشرق الأوسط، فإنه سيكون لها رد فعل، وسيكون هناك نوع من «التقمص» لدينا هنا نظرا لهذه العلاقات الممتدة، والآن لنشارك فى الحوار مابين على سبيل المثال «التطرف» من ناحية و«الأمة الذكية» من ناحية أخرى وهذا مجرد اعتقادى الخاص ـ فإننى أعتقد أن الشباب فى جميع أنحاء العالم يرغبون فى «مجتمع أكثر عدالة» كما أنهم يريدون «تعليما أحسن»، ووظائف جيدة، ويتطلعون الى «الآمال فى المستقبل»، وأحسب أن هذا هو الوضع بامتداد العالم، مجتمع عادل، وتعليم جيد، ووظائف جيدة، ومستقبل أكثر إشراقا، وأينما كنت فى الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا أو أوروبا فإن الأمور واحدة، ولكن من السهل جدا الحديث عن ذلك الأمر أكثر من تحقيقه، وحتى يمكن تحقيق ذلك فإنك بحاجة الى «الحكم الجيد»، والذى بإمكانه توفير التعليم، والذى بدوره سيوفر اقتصادا ينمو، وبدوره يوفر وظائف جيدة، وربما الأكثر من ذلك فإنه مع «الحكم الجيد» سوف يمكنك إيجاد المجتمع العادل.
.. وأحيانا أعتقد بأن هناك الكثير من الغضب والإحباط فى أجزاء عديدة من العالم، وأنا لا أبرر العنف مطلقا، إلا أن هذا الغضب والإحباط من جراء عدم شعور الشباب بأن لديهم أملا فى المستقبل. وعندما يصبحون غاضبين فإنهم يبحثون عن طرق بديلة للحصول على «شعور بالانتماء» و «إحساس بالقوة». وهذا ماتقدمه الجماعات المتطرفة.
أما فيما يتعلق بما نفعله إزاء ذلك هنا، فإن الأمر الأول هو تذكير الجميع بأننا مجتمع متعدد الاثنيات واللغات ولكنه «مجتمع موحد»، المسلمون كانوا دوماً هنا، كما أنهم «ينتمون» لهذا البلد وستتم معاملتهم بعدالة. وإذا لم تفعل ذلك، وإذا لم تندمج فى المجتمع، فإنك ستواجه مشكلات.. ومن هنا فإن «العدالة» هى أمر حيوى للغاية.
>> لكن أعتقد أن هناك أمرين ناقصين لهذه الوصفة للعلاج : أن هناك الكثير من النزاعات التى لم تحل بصورة عادلة، وهى مصدر لإثارة الناس والتطرف (قضية فلسطين والروهينجا فى بورما.. إلخ)، والأمر الثانى أن الأمريكيين ينفقون تريليونات الدولارات فى محاولة لعلاج الأمور من خلال «القصف والتدمير». وبدلاً من لوم الأمريكان فإننا لا نرى شيئاً من الآسيان بالرغم من أن الشرق الأوسط سيظل مصدراً للفرص ولكن للتهديد ؟!
{{ هذه نقطة جيدة. ولكن دعنى أبدأ الحديث عما نفعله محلياً قبل التطرق إلى البعد الدولي. فبداية الأولوية الأولى لعملنا هو ادارة مجتمع عادل ومتماسك. والزائر لبلادنا سيرى أن 80% من الشعب يقيمون فى منازل شيدتها الحكومة، وفى كل مجموعة من الشقق وأى باب ستطرق عليه سوف تجد الهنود والماليزيين والمسلمين والصينيين يعيشون جنباً إلى جنب، وسوف ترى المساجد والمعابد إلى جوار بعضهما، وربما يتشاركان فى جدار واحد. وهذا أمر لا يمكن تخيله فى بلدان أخري. والأمر الثانى لدينا تعاون مخابراتى ومعلوماتى وعملياتى جيد مابيننا، وهذا التعاون مع دول الجوار وحتى مع دول الشرق الأوسط.
وحتى من أجل اعتقال الأشخاص الذين لديهم «دوافع متطرفة» أو ارتكبوا «أفعالا متطرفة» فإنه لا يمكن القيام بذلك ما لم تكن تلك التجمعات الاسلامية الأكبر ترفض ذلك. وبعبارة أخري، فإن القيادة يجب أن تأتى من الجالية الاسلامية ذاتها، فذلك أمر لا يمكن فرضه من خارج الجالية عليها.
والأمر الآخر فيما يتعلق ببرنامجنا الخاص، فعندما يتم اعتقال أناس أو احضارهم للاستجواب فإن لدينا «برنامجا لاعادة التأهيل الديني». فهناك الائمة الذين يعرفون القرآن، ويمكنهم الجلوس مع الشخص المتطرف ويشرحون له لماذا معتقداته خاطئة، وبالطبع فإن شخصاً مسلماً يفهم الدين كاملاً هو وحده القادر على تصحيح المفاهيم لدى المتطرفين. ولا يمكن لغير المسلم أن يقول لك «هذا ليس جهاداً». هذا خطأ وإحدى الميزات لدينا فى سنغافورة هو أن الجالية الاسلامية مندمجة وتفهم الدين، وتحاول تصحيح الصورة للشباب الذين جرى تضليلهم. وهذا أمر نفخر به.
…ماذا عن البعد الدولى ؟
{{ الآن تسأل عن الأمر عالميا. فنحن ليس لدينا ـ مثلاً ـ ما حدث فى الشرق الأوسط أو أوروبا، وأحسب أننا لا نؤمن ولا نعتقد أن لدينا الحق للذهاب ونصح الآخرين أو إخبارهم بما يجب عمله. ولكن إذا أراد الناس القدوم إلى هنا، ودراسة تجربتنا، ورأوا فيها شيئاً نافعاً، أو تحليلها أو تعديلها ثم تجربتها فإننا نرحب بذلك.
.. سيادة الوزير.. ترى ماهى رؤيتكم لقانون جاستا الأمريكى لمعاقبة الدول الراعية للإرهاب، وهل تشعر سنغافورة بالقلق من انعكاسات القانون ؟
{{ أعتقد أن هناك الكثير من الجدل بشأن القانون حتى داخل الولايات المتحدة.. أليس ذلك صحيحا؟. وحتى مع تجاوز الكونجرس لفيتو الرئيس أوباما.. فإننى أعتقد أن بعض رجال الكونجرس لديهم «أفكار أخري». لذا دعونا ننتظر ونري.
>> لكن القانون سوف ينتقص من سيادة جميع الدول، وحتى سنغافورة يمكن مقاضاتها من قبل المحاكم الأمريكية. خاصة أن بعض النصوص مرنة تحاسب الحكومات على ماتعتقد أنه إهمال أو جهد غير كاف لمنع العمليات الإرهابية ؟
{{ حسن. ولهذا السبب أعتقد أن القانون يثير الجدل، ولا أعتقد أنه أمر حسم بعد حتى داخل الولايات المتحدة. دعونا نرى كيف يمضى داخل العملية التشريعية فى الولايات المتحدة، ولا أعتقد أننا رأينا نهاية الأمر بعد. وبالطبع سوف ندرس العواقب بعناية، ولكننا لم نصل إلى أى أحكام نهائية بعد.
>> ترى ماهى رؤيتكم للنزاع الفلسطينى الاسرائيلي، والحرب فى سوريا، وقضية اللاجئين، وأيضا هل يمكن أن يعود الشرق الأوسط إلى سنوات الهدوء وليس «سنوات الربيع» ؟
{{ مرة أخري.. أنا لست فى موقع لإعطاء النصيحة. إن الشرق الأوسط مكان «معقد للغاية».
>> هذه ليست إجابة دبلوماسية، لكن كيف يمكن بإعتقادكم حل هذا النزاع وتلك الحرب يمكن تسويتها. وهل تعتقد أن المجتمع الدولى يقوم بما فيه الكفاية لاقناع إسرائيل بالحفاظ على حل الدولتين؟ خاصة أنكم على علاقات جيدة مع إسرائيل، فهل حاولتم إقناعها ؟
{{ لقد قلنا لهم صراحة إننا نؤمن بحل الدولتين، وأنهم يحتاجون كلا من السلام والأمن.. ويمكن للمرء أن يجادل بشأن أيهما يجب أن يأتى أولاً. ومثلما حدث فى جنازة شيمون بيريز فإنك تستمع إلى هذه «المدائح»، إلا أنه لايزال الجدل هناك : السلام أولاً أم الأمن أولاً. وربما الاجابة أنك تحتاج الاثنين معاً. ونحن نؤمن بحل الدولتين. ونحن نحافظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف سواء الاسرائيليون أو العرب، وهو مايمكننا من الحديث بصراحة لكل الأطراف. ولكننا لن نحل المشكلة لأنها معقدة للغاية. وليس لدى حل.