الفصل الأخير
لعلك تذكرنى، فأنا كاتب رسالة «مسافر إلى الأبد» التى نشرتها لى منذ ما يقرب من السنة، وكان محورها أخى الشهيد «طارق»، ووالدتى التى كانت وقتها قد قاربت الثمانين عاماً، فقد ذكرت فى رسالتى أنها تعرضت لنزيف فى المخ وهى فى سن السبعين أدى إلى إصابتها بشلل نصفى وقلة القدرة على التركيز، وحين استشهد أخى اللواء «طارق»، وهى فى الخامسة والسبعين قررنا أنا وأخواى وأخواتى الثلاث ألا نخبرها بنبأ استشهاده خوفا عليها من انتكاسة ربما تودى بحياتها، وقلت لك أننى فى أحيان كثيرة كنت أشك أنها لا تعلم، ومرات أخرى أجزم بأن قلبها يحدّثها بوفاة فلذة كبدها … إلخ، وجاء ردكم الرقيق المقنع على الرسالة بأنها يجب أن تعلم بالحقيقة، ولو بالتدريج، وذلك بأن نخبرها أنه أصيب فى غربته إصابة خطيرة، ثم نبلغها بنبأ استشهاده بعد فترة، وحينها تلقيت مكالمات هاتفية من الأصدقاء والأقارب والمعارف الذين انقسموا بين مؤيد ومعارض للحل الذى اقترحته، فالمؤيد يريد ألا نحرم أخى من دعاء الوالدة، أما المعارض فيرأف بحالها، ولقد هممنا بتنفيذ رأيك، وما أشرت علينا به، ولكننا تراجعنا فى اللحظات الأخيرة، وخفنا على والدتنا من أثر الصدمة، وآثرنا الأخذ بالرأى الآخر بعدم إخبارها، وها أنا أقدم لك الفصل الثانى والأخير من قصة أمى وأخى، ففى ليلة الجمعة التاسع عشر من ذى الحجة، تأهبت للذهاب إلى عيادتى، وإذ بى أتلقى مكالمة من أختى تخبرنى فيها أن الوالدة «تعبانة» وأنها مازالت تفرز العرق بغزارة لم نرها بهذه الكمية من قبل، فقلت لها: لا تنزعجى من العرق الغزير خاصة وأننى كنت لديها فى صباح ذلك اليوم وكانت بمثل هذه الحالة، وظننت أن هناك خللا ما فى نسبة سكر دمها، وقد حللته، فوجدته فى معدلاته الطبيعية، وأجلستها أنا وأختى وأطعمناها، ثم طلبت منا أن تستلقى مرة أخرى على فراشها، ولم يطاوعنى قلبى فى الذهاب إلى عيادتى قبل الاطمئنان عليها فأسرعت مهرولاً إليها ـ وأحمد الله على ذلك ـ فلقد كانت فى النزع الأخير، ولكنها شبه واعية، فحين نادينا عليها إلتفتت إلينا، وحدث موقف عجيب لم أجد له تفسيراً حتى الأن، إذ رددّت عليها أسماء إخوتى (أجيب لك فلان) فتومئ براسها إلى أن وصلت إلى إسم «طارق» فجاءت إجابتها مختلفة تماماً عن أسماء الآخرين ـ حيث أومأت برأسها وعلت شفتيها ابتسامة رقيقة اقشعر لها بدنى، وحملّقت فى شئ أمامها، وأشارت بإصبع السبابة اليمنى إلى ذلك الشئ.. هذا ما فعلته عندما ذكرت اسم «طارق» فقط دون بقية أسماء أخوتى، فهل كانت تقول لى إنها تراه الآن، وتشير إليه، وتبتسم له؟، مصداقا لقوله تعالى: «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»، أم أنها كانت تنطق الشهادتين، أم أنها كانت تقول لى «أنت غير صادق»، أم ماذا؟.
لقد رحلت والدتى وتركت فراغاً رهيباً لدينا جميعاً برغم أنها تعدت ثمانين عاماً بعام، وصدق المثل القائل عن الأبوين «أنهما بركة وإن كانا شوية عظم فى قفة»، فمن نقبل يده بعد أن ذهبت لبارئها؟، ومن سيدعو لنا بإخلاص بالدعاء الصادق المستجاب النابع من أعماق القلب دون انتظار أى مقابل؟.. والله الذى رفع السماوات بغير عمد، لقد رحلت والدتى فى هدوء تام وعلى وجهها ابتسامة رضا غريبة، حيث تغيرت ملامح وجهها وهى تحتضر، واختفت منه تجاعيد الزمن، وظهر كأنه البدر فى كماله أو كأنه وجه عروس يوم عرسها، فسبحان الله القائل: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» (القيامة 22و23)، أما ذلك العرق الغزير الذى أصيبت به فقد أخبرنا أحد العارفين أن تلك الموتة كانت موتة النبى ـ عليه الصلاة والسلام.. وندعو الله أن يكون رسولنا الكريم شفيعاً لأمنا الغالية يوم القيامة.
إن أمى رحلت بسرها فلا نعرف إن كانت تعلم باستشهاد طارق أو لا تعلم، وقد دفناها بجواره، ونحن نحسدهما على ما هما فيه الآن، فأمى ستكون من أوائل السبعين الذى سيشفع لهم أخى، أما هو فيستأثر لنفسه الآن بحضن أمى الدافئ، ولمساتها الحانية التى افتقدناها نحن الذين مازلنا على قيد الحياة إلى أن نلقاهما بإذن الله.. لقد دفنا أمى عقب صلاة الجمعة، وبعد الانتهاء من مراسم الدفن، وإبراء لذمتى وذمة أخوتى تجاهها وقفت على قبرها، واستأذنت جموع المشيعين بكلمة قلت فيها: «ربما تسمعنى والدتى الآن ـ لقد أصيبت بنزيف فى المخ، وأخى اللواء الشهيد طارق هو المدفون بجوارها، وهما الآن فى معية الله، وأخفينا عنها خبر استشهاده، وأشهدك يا أمى أننا ما أخفينا عليك خبر استشهاد ابنك إلا رحمة بك، وخوفاً عليك، وحباً فيك، فإن كنا قد أخطأنا فى حقك، فندعو الله أن يغفر لنا، ونطلب منك ومن أخى السماح».. اللهم اغفر لهما وارحمهما.. آمين يارب العالمين.
< ولكاتب هذه الرسالة أقول:
عندما أشرت عليكم بضرورة إخبار والدتكم باستشهاد شقيقكم تدريجيا، كان دافعى إلى ذلك هو أن حجب خبر موته لا حرج فيه مادام مؤقتا لدواعى مصلحة الأم العجوز التى قد تتعرض لانتكاسة صحية من هول الصدمة، فيجالسها من تأنس به من أهلها، ويتدرج معها فى الحديث، ويذكّرها بالله، ويقول لها: إن الآجال مقدرة قبل خلق الناس، وأن الأجل إذا حان فلا حيلة فى تأخيره، وأن الأقدار كلها من تقدير الله العزيز الحكيم، وأن على النفس الصبر على ما أصابها، فالصابرون يوفون أجورهم يوم القيامة بغير حساب، ونحو هذا الكلام ، حتى إذا رضيت نفسها، فاتحها فى الأمر، وأخبرها به، ووجهها إلى الصبر والاحتساب .
وأما إخفاء خبر وفاته عنها بصورة دائمة فإننى لم أحبذ ذلك لعدة أسباب، منها حرمانه من دعاء أمه له وترحمها عليه، وهو أحوج ما يكون إلى هذا الدعاء، وحرمانها من جزاء الصبر والاحتساب، كما أن مثل هذا الأمر عرضة لإضاعة كثير من الحقوق على أهلها، ومنها حق الأم فى وراثة ابنها، إن كان له مال، وحق ورثته هو فى الحصول على حقوقهم، فأمر الدنيا مبنى على فراق الأحبة، وعلى الجميع أن يكونوا مؤهلين لذلك.
نعم كانت هذه هى دوافعى لضرورة إخبار والدتكم باستشهاد ابنها البطل، ولكن هناك جانبا آخر ساهم فى أن يكون عدم إخبارها هو الحل الأفضل، وأعنى به حالتها الصحية المتردية، وأعتقد أنها قرأت على ملامحكم علامات الحزن الدائم، وكان هذا دليلا كافيا على أن هناك شيئا ما يتعلق بشقيقكم لكنكم تخفونه عنها، فصبرت واحتسبت ابنها شهيدا حتى لو لم تخبروها بأنفسكم.. أسأل الله لها الرحمة، وأن يسكنها فسيح جناته ولكم الصبر والسلوان