Home بأقلامهم أحمد_البرى يكتب .. الجريمة النكراء !!

أحمد_البرى يكتب .. الجريمة النكراء !!

أحمد_البرى  يكتب .. الجريمة النكراء !!
0

أنا سيدة فى الثامنة والخمسين من عمرى، نشأت فى أسرة ريفية بسيطة لأب مزارع يعمل بالأجر اليومى، وأم ربة منزل لم تعرف فى الدنيا شيئا غير بيتها وأولادها، ولى شقيقان يصغرانى بعدة سنوات، وبرغم تفوقى فى الدراسة، فإن أبى أصر على اكتفائى بدبلوم متوسط، من منطلق إيمانه بأن مصير البنت، هو الزواج والتفرغ لرعاية الأسرة، ولذلك وافق على تزويجى لقريب لنا، لم يكمل تعليمه، وعمل مع ميكانيكى سيارات، وأنا مازلت طالبة فى المدرسة، ولم أكن وقتها قد بلغت السن القانونية للزواج، ووجدتنى بين يوم وليلة زوجة مسئولة عن عائلة، وليس أسرة صغيرة، إذ تزوجت فى بيت كبير يضم زوجى وأخوته وزوجاتهم، وأباهم وأمهم، وتحملت خدمتهم جميعا، بلا شكوى ولا ضجر، وأنجبت ابنى الأول قبل أن أكمل عاما على الزواج، وعشت فترة عصيبة بين أعباء البيت والأسرة، والمذاكرة إلى أن حصلت على الدبلوم المتوسط، ثم أنجبت ابنى الثانى، ولاحظت أن فترات غياب زوجى عن البيت صارت أطول من المعتاد، ولما تحدثت معه فى هذا الأمر، رد علىّ بأن الشغل زاد عليه، وأنه يفكر فى العمل بورشة كبيرة فى المدينة التى تبعد عنا مسافة كبيرة، فأبديت له مخاوفى من أنه لن يستطيع السفر والعودة يوميا لما فى ذلك من مشقة عليه، وعرضت ما قاله لى على أبيه، فلم يعلق على ما ينوى زوجى أن يفعله، وهكذا نفذ ما أراد، وحدث ما توقعته، إذ أبلغنى بعد ما يقرب من شهر على التحاقه بعمله الجديد، أنه استأجر مسكنا فى المدينة، وسيزورنا كل أسبوع، ثم كانت المفاجأة الكبرى أنه تزوج بأخرى، وأنجب منها بنتا، فأصررت على الانفصال عنه، والتقى أبى بأبيه، وبرغم اتفاق وجهتى نظرهما على أن زواجه بأخرى سيؤثر علينا، لم تفلح جهودهما فى إثنائه عن هذه الزيجة، ولا حتى توفير مصروفات ابنيه، ومع استحالة العشرة بيننا، والحال كذلك، حصلت على الطلاق، وانتقلت إلى بيت أبى ومعى طفلاى، واهتمت أمى بهما، ووفر لهما أبى متطلباتهما فى حدود المتاح له، وانقطعت صلتهما تماما بأبيهما الذى لم يسأل عنهما، ولو مرة واحدة.

وبعد حوالى عام، طرق بابى رجل يكبرنى بعدة سنوات، من قرية مجاورة، ولديه «ولد وبنت» من زيجة سابقة، وعرفت أن سبب انفصاله عن زوجته، هو أنه دخل السجن بتهمة الاتجار فى المخدرات، ولم تنتظر أن تثبت براءته من هذه التهمة التى حاكها البعض له ظلما، فإذا بأبى يرحب به، وضغط على أمى لإقناعى بالزواج منه، فرجوتها تأجيل مسألة الارتباط الى حين أن أتعافى من صدمة زوجى السابق، وأن أربى إبنىّ، ولا تتفرق بهما السبل، لكنها قالت إنها مسئولة عنهما، وأننى مازلت صغيرة، ولا يعقل أن أظل بلا زواج، وزاد من اقتناعهما بهذا الرجل، أنه هادئ، ويتحدث بلباقة، ويجبر من أمامه على احترامه، والإنصات له، وكل ما فعله أبى هو أنه أتاح لى فرصة الجلوس معه بعض الوقت، وأبديت له مخاوفى مما عرفته عنه، فطمأننى بأننى سأعرفه على حقيقته عندما أتزوجه، ولن أندم على الارتباط به!

وأوكلت أمرى إلى خالقى، وتم عقد قرانى عليه، وانتقلت إلى بيته، وأصدقك القول، بأنه كان حسن العشرة، وأحواله المادية مستقرة، إلا مسألة المخدرات، فقد وجدتها حقيقة ماثلة أمامى بلا مواربة، فصرخت فيه بأنه كذاب وغشاش، وأننى لا يمكن أن أستمر معه إلا إذا ابتعد عن هذا الطريق، فوعدنى بأن يتوب عن هذه «الجريمة النكراء» حفاظا على أسرته، وشيئا فشيئا لم يعد يأتى بالمخدرات إلى المنزل، واطمأننت بعض الشىء إلى إنه تاب بالفعل، ورجع إلى الله، وأنجبت منه ولدا ثم بنتين «توءم»، وسبحان الخالق العظيم، فإنهما تتمتعان بجمال أخاذ، وذكاء واضح، وكم تمنيت ضمهم إلى أخويهم من زوجى السابق، فينشأ الجميع فى رعايتى، إذ أن أبى وأمى دللا ابنىّ الكبيرين، وتركا لهما الحبل على الغارب، وكانت النتيجة أنهما تسربا من التعليم، وأخذهما أبى معه للعمل فى «الفلاحة»، أما شقيقاى، فلقد تخرج الأكبر فى الجامعة، وحصل الثانى على دبلوم متوسط مثلى.

عند هذا الحد لم يكن هناك ما يشغلنى، سوى قلقى على ابنىّ من زوجى السابق، وحاولت قدر استطاعتى متابعتهما، وكم ألححت عليهما أن يكملا تعليمهما، ولو من الخارج، أو يلتحقا بفصول تعليم الكبار، ولكن الواقع الذى عاشاه كان أكبر منى، ثم وقعت الطامة الكبرى التى كنت أخشاها، إذ تم القبض على زوجى متلبسا بالإتجار فى المخدرات فى بيت قديم، بعزبة نائية بمشاركة آخرين، فانهرت تماما، ونقلونى إلى المستشفى، وظللت فى العناية المركزة ثلاثة أيام، وأظهرت الفحوص الطبية أننى تعرضت لأزمة قلبية، وأن حالتى الصحية لا تتحمل أى صدمات أو انفعالات، وأحاطنى أهلى بالرعاية والاهتمام، ولم يتخل أهل زوجى عنى، وعدت إلى منزلى، وانزويت فى ركن منه، وحكم على زوجى بالسجن بعد ثبوت التهمة عليه، وتوالت المصائب، إذ كان شقيقى خريج الجامعة مرشحا لوظيفة كبرى بجهة سيادية، لكنها رفضته، لأن زوج أخته «تاجر مخدرات»، وكان وقع هذا الخبر علىّ أشد قسوة من الإعدام.. نعم يا سيدى، فلم أسع إلى هذه الزيجة التى جنى أبواى علىّ بها، ولم يستجيبا لتوسلى إليهما بأن أواصل تعليمى، وأختار زوجى بإرادتى.. لقد ذهبت إلى شقيقى، ورجوته ألا يحزن لفقده الوظيفة التى كانت حلمه ومبتغاه، فربت على كتفى، وقال لى: «إنها مسألة نصيب والحمد لله»، وقد أتم الله نعمته عليه بوظيفة لا تقل عنها مستوى، وحقق فيها نجاحا كبيرا، ومع ذلك لم أغفر لنفسى أننى كنت السبب فى فقدانه المهنة التى كان يبتغيها.

ومرت الأيام، وخرج زوجى من السجن لسوء حالته الصحية، وبعدها بأسابيع قليلة رحل عن الحياة، ولم يشغلنى شئ عن تربية أولادى، وبذلت قصارى جهدى معهم، وتخرجوا جميعا فى الجامعة، ولم أشعر يوما بأن شيئا ينقصنا، أو أن الآخرين ينظرون إلينا نظرة سيئة لأن أباهم تعرض للسجن بتهمة الاتجار فى المخدرات، إلا عندما أراد ابنى الزواج بفتاة أحبها من نفس البلدة، فعندما زرت أهلها، وطلبت يدها له، تعللوا بأسباب واهية لرفضه، وتكرر ذلك أكثر من مرة، وعرفت أن السبب الوحيد لعدم قبول أى منهن الارتباط به، هو أن أباه كان «تاجر مخدرات»، وبرغم أن أبنائى يعرفون أن أباهم قد سجن بهذه التهمة، إلا أنهم لم يدر بأذهانهم أنها ستلاحقهم مدى الحياة.

لقد تزوج ابنى بزميلة له، ويعيشان فى سعادة، كما تزوج ابناى الكبيران من زوجى الأول، وصار لكل واحد أسرة مستقلة، وبيت هادئ، لكن قلبى وعقلى مشغولان بابنتىّ اللتين برغم تعليمهما العالى، وجمالهما، وطباعهما الرائعة لم يطرق بابهما أحد لا من العائلة، ولا من المنطقة كلها، وبرغم أن لهما زملاء يرغبون فى زيارتنا بغرض الزواج، فإننى خائفة من بعدهما عنى، وأسأل نفسى كثيرا: ماهى الجريمة التى ارتكبتها لكى ينظر الآخرون إلينا هذه «النظرة المميتة»؟، ثم سرعان ما أتذكر عبارتك البليغة التى تتضمنها ردودك دائما، وهى أن «البدايات تحدد النهايات»، فليت الآباء والأمهات يدركون ذلك، وهم يتخذون قرارات مصيرية تؤثر على أبنائهم مدى الحياة.

< ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

بالتأكيد فإن «البدايات تحدد النهايات»، ولكن لا يعنى ذلك أن يقف المرء مكتوف اليدين، إزاء ما يعترضه من عقبات، وما يواجهه من أعاصير، فلقد خلق الإنسان فى مشقة وتعب، لقوله تعالى “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى كَبَدٍ» (البلد4)، وعليه أن يجتهد قدر استطاعته، للتغلب على مشكلاته، لا أن يستسلم لها، ومن الفشل يمكنه أن يصنع النجاح، وأن يحوّل النهايات الأليمة إلى بدايات مشرقة، فإذا كان زوجك الراحل «تاجر مخدرات»، أو لم يكن كذلك، فإن الأمر لم يكن بيديك، ومادمت لم تنجرفى وراءه، ولم تشاركيه جريمته، وتراعين الله فى تصرفاتك، وربيت أبناءك على الفضيلة، فإن عليك أن تدعى الأمور التى لا تستطيعين التحكم بها تمضى فى سبيلها، فمعظم الأشياء جزء من حياتنا، لأننا فقط نواصل التفكير فيها، وتحدث الأمور الإيجابية لنا، حين نبقى على مسافة عاطفية بيننا، وبين الأشياء السلبية، فتعاملى مع الماضى بكل أحزانه ومآسيه من خارج بؤرة الشعور، وأفسحى المجال للشعور بالراحة، ولا تتركى ما لا يمكن لك التحكم فيه، لأن يتداخل مع الأمور التى يمكنك أن تتحكمى فيها، وفكّرى دائما فيما هو أفضل، فأولادك ناجحون، وقد استطاع ابنك من زوجك الثانى، أن يحقق أمانيه فى العمل والنجاح والزواج ممن رأته مناسبا لها، بعيدا عن ماضى أبيه الذى ليس من العدل، ولا الإنصاف أن نحاسبه عليه.

أيضا تقبلى الواقع برحابة، فالحياة بسيطة، وكل شيء يحدث فى اللحظة المناسبة له، لا مبكرا ولا متأخرا، وما تفقدينه من جانب، فإنك تعوضينه وتحصلين عليه من جانب آخر بأمور أفضل، وما تكسبينه فى أمر ما، قد تقابله خسارة فى أمور أخرى.. هذا هو واقع الحياة، فانتبهى لما يدور حولك، وربما لا يعجبك، وهو أمر لست مضطرة إليه، ولكنه يسهل الأمور عليك، فكل شيء بيدك ورهن اختياراتك التى تقررين بها سير الأمور بين تقبل الواقع، ومقاومة كل شىء، ولا تنسى أن بعض الأشياء خارجة عن سيطرة الإنسان، وهذا ما يعرف بـ «القدر» فلا تتحديه بل تقبليه، وحينها سوف تكافئك السماء من حيث لا تدرين، فالله مطلع علينا، ويعلم خبايا نفوسنا، فكونى حسنة الظن به سبحانه وتعالى، حيث يقول فى الحديث القدسى «أنا عند ظن عبدى بى، فليظن بى ماشاء» ومن المهم أن تغيّرى عقلك، فالتغيير مثل التنفس، فهو ليس جزءا من العملية، ولكنه العملية فى حد ذاتها، وأول خطوة نحو التغيير الإيجابي، هى إعادة هيكلة طريقة التفكير نفسها، فكونى ايجابية دائما، وتطلعى إلى الجديد، ولا تتيحى للمجهول أن يأخذك إلى مناطق غير متوقعة فى داخلك، وفى طريقة التفاعل مع نفسك، ولا تخشى شيئا، فالأمر الإيجابى ينعكس عليك، ويطلق العنان لقوتك الداخلية، عندما تتجاوزين الخوف غير المبرر، وإذا لم تتمكنى من تغيير عقلك، لن تكونى قادرة على تغيير أى شيء فى حياتك، وستبقين كما أنت، ولذلك فإن كل ما عليك القيام به الآن، هو أن تنظرى إلى الأمور من منظور مختلف لكى تتغير بشكل أفضل، وأن تستمسكى بالأمور الجيدة، فحين تضيق الأوضاع، ويصبح صراع الحياة صعبا وأحيانا ظالما، فإن كل ما ترينه حولك يميل إلى السوداوية والسلبية، وهذا أمر طبيعى، ومن هنا عليك ألا تضيعى طاقتك فى محاولة للخروج من الظلمة التى تشبه «الحفرة العميقة»، لأنك فى الغالب ستحفرين وتبحثين عن مخرج من الجهة غير الصحيحة، أو ستغوصين إلى العمق بشكل أكبر، وبدلا من ذلك، أنصحك أن تستخدمى طاقتك الداخلية للوصول إلى أفضل ما فيك، وسحبه إليك، مبقية فى ذهنك أنك قادرة على فعل أمور مختلفة بطريقة جيدة، وهى تقابل تلك الجوانب التى أخفقت فيها، وحينها سوف تتغير الظلمة تدريجيا ويظهر الجانب المشرق للخير ويشع، لينير لك طريق الخروج من الحفرة التى استهلكت من وقتك وحياتك جزءا، وتظهر حقيقتك التى تتألق من خلال التفاؤل والتمسك بالأمور الجيدة وسط كل السلبيات.

والحقيقة أننى لا أرى مبررا لما تعيشينه من استعادة لماض انتهى، ولن يعود، فأعيدى تجميع قواك، فالقوة لا تعنى أن تحملى الحزن أو الخجل، ولكنها تعنى اختيار طريقك، والتعلم من دروس الماضى دون أن نجتر أحزانه ومآسيه، وأرى أن الفرصة مازالت سانحة أمامك لتغيير نمط تفكيرك.. صحيح أن إجراء أى تغيير كبير فى الحياة، أو تجربة أمر جديد يكون مخيفا فى بادئ الأمر، ولكن هل تعرفين ما هو الأمر المخيف أكثر من كل هذا؟.. إنه الندم، ولذلك عليك إدراك أن مخاوفك أكبر من الواقع، وسترين الحقيقة بنفسك حين تواجهين المخاوف، فلا تدعيها توقفك، وعيشى حياتك كما هى، فكثيرون ممّن حولنا فقدوا حبا لأنهم خافوا من التجربة، وآخرون خسروا أحلامهم، لأنهم ظنّوا أنها ليست مناسبة، وأن الوقت مبكر لتحقيقها، وتخلى البعض عن أمور كانت قيّمة، لأنهم ظنوا أنهم لا يستحقونها، وندموا كثيرا بعدها.

يا سيدتى: إن كل من وصل إلى قمة الجبل، لم يقع من السماء عليها، بل وصل إليها بجهده وتعبه، فالأشياء تأتى لمن يعمل من أجلها، وأنت قادرة على مواصلة مشوارك مع أبنائك إلى النهاية، فمدى جسور الصلة بين ابنيك من زوجك الأول، وأخوتهم من زوجك الثانى، فبصراحة شديدة ألمح بين سطور رسالتك أن هناك حالة من الجفاء بينهم، وأعتقد أن ابنيك الكبيرين مازالا عالقا بذهنيهما أنك تخليت عنهما، فحتى وإن عاشا فى كنف جديهما، فإنهما افتقدا حنان الأم، ولم يجدا من يحثهما على الدراسة، ويساندهما فى فترتى الطفولة والمراهقة، ولاشك أنك بإمكانك أن تقدمى لهما الكثير، وأن تجمعى شمل العائلة التى صرت الآن كبيرتها.وأعتقد أيضا أنك تعلمت الكثير من الدروس والعبر فى حياتك، وما من شيء أكثر قوة وجمالا، من ابتسامة تظهر وسط الصراع والدموع، فلا تندمى على وقت مضى، ولا على لحظات كانت مليئة بالألم، بل ابتسمى بما اكتسبتيه من خبرات، فمحصلة المتاعب والمرارات التى واجهتك لا تحدد من أنت، ولكن الطريقة التى تجاوزت بها كل هذه الأمور هى التى تحدد من أنت، وهى التى جعلتك السيدة القوية التى لا تأبه الصعاب، ولا تتوقف عند التفاهات، والأم الحريصة على مصالح أبنائها، والتى لم تهرب من مسئوليتها بعد ما تبين لها من أمر زوجها، وفى النهاية يبقى من المهم إدراك أن كل خطوة نخطوها، هى درس بحد ذاته وأن ما نفعله اليوم ضرورى للوصول إلى الغد، ولذلك كونى فخورة بنفسك، وتجاوزى الماضى الذى لم يكن لك يد فيه، وسوف تسعدين بأبنائك، وأوصيكم جميعا بصلة الرحم، ولم شمل العائلة، والله المستعان.