(وجيه..أبومحرات وزليقة)
في جو الود والمحبة الذي عشت فيه صغيرا، ورأيت الناس في قريتنا كلهم يتنفسونه مع هواء الريف العليل الصحيح السليم المعافي من كل تلوث،كان سكان شارعنا والشوارع المجاورة يقضون ليالي السمر، صيفا أمام البيوت أم فوق الأسطح،وفي الشتاء كانت المنادر”جمع مندرة” تشهد حكاياتهم الطريفة ولهوهم البريء،وأحيانا تنتقل هذه السهرات إلي حجرة “الفرن”فوق القبة،فقد كانت معظم البيوت تخصص حجرة للفرن، الذي يسوي فيه الخبز” العيش” وفي الشتاء يفرشون فوقه الحصير، ويسهرون في تلك الحجرة فوق الفرن، وأحيانا كانوا ينامون فوق القبة.
في هذا الجو الحميمي كان”وجيه ابو خليل” أحد ظرفاء القرية، المعروف بحكاياته خفيفة الدم، ومقالبة التي اتقنها وراثة عن والده ” أبو خليل الكبير” الذي تحدثت عنه الجمعة الماضية،كان وجيه مثل والده غاية في البساطة،ولكنه كان أكثر منه طولا،وتطورا، مثله مثل باقي شباب القرية الذين تزوجوا في سن مبكرة، ولكنهم لم يتخلوا أبدا عن طفولتهم ، أو قل عن لهو وشقاوة المراهقة، وكان “وجيه” في مثل عمر خالي طه ، وأكبر بثلاثة أعوام من خالي السيد رحمهم الله جميعا.
في حضرة والده” أبو خليل” لم يكن يروي وجيه حكاياته، ولكنه كان دائم المشاكسة في أبيه،ومن حكاياته الطريفة عن أبيه، أنه كان ينام ذات ليلة فوق السطوح هربا من حرارة الجو،وكان الجميع يعرفون عنه ذلك، وفي هذه الليلة، كان أبو خليل يحلم وهو نائما،وخلال حلمه تدحرج من فوق السطوح،ووقع فوق كومة قش كانت بجوار البيت فسلم الله ولم يصبه أذي، ولكنه أراد أن يدخل البيت، وكان وجيه قد اغلق الباب بالترباس من الداخل، فراح ابو خليل يدق الباب بكلتي يديه، ويقول ردا علي ” مين بيخبط” “أنا أبوك يا وجيه” فكان وجيه يرد قائلا ” ابويا فوق السطح ، ياعم ياعفريت، روح نام، وإن كنت عايزه إطلع له فوق السطح” وهكذا ظل أبو خليل يخبط علي الباب بيديه ورجليه،حتي طلوع الفجر، ووجيه يرفض أن يفتح له، وعرف الناس الحكاية، وكلما تقابل أحد من القرية مع أبو خليل تندروا معه بالحكاية ، وصارت” أنا ابوك يا وجيه” مضرب الأمثال في القرية.
حكاية أخري من حكايات ” وجيه” رواها لي في الستينيات قال: من كام سنة اتخانقنا احنا وميت سويد(قرية تفصلها عن قريتنا ترعة ) بسبب ” ماتش كورة” والدم سال للركب في الخناقة، وحتي لايقتل الناس بعضهم، الحكومة “جابت”-أحضرت- الهجانة( قوات أمن تركب الجمال، وكانوا من النوبيين أو السودانيين)تحجز بين البلدين، وعاديك ، كنت الناس بتنام من بعد صلاة العشاء، والشوارع ” أسكت هُس” ،واحنا كنا لازم نلعب ونهرج زي ما اتعودنا انا وخالك طه وخالك السيد ومسعد وعلي أبو صبري،طيب نلعب إزاي والناس دي وقفة لنا في الشوارع، بالجمال والكرابيج؟
ويكمل ” وجيه ” حكايته فكرنا نعمل زيهم ونقلدهم، ورحنا سرقنا البدل بتاعتهم، والعمم، وعملنا عساكر هجانة، وخرجنا علي ناصية الشارع، بعد أن دهنا وشوشنا بالهباب بتاع الفرن،وكل واحد منا مسك كرباج، ومشينا، وكل واحد نقابله من الناس اللي احنا متغاظين” غاضبين” منهم ، نعمل معاهم زي ما كانوا الهجانه بيعملوا “س،وج”: إنتي رايحه فين يا كية، خشي البيت ما تخرجيش” ونضربه ضربتين تلاته بالكرباج، لحد في يوم ما وقع العمدة في إيدينا، واحنا بنضربه أنا مت علي روحي من الضحك فانكشفنا، وخدنا علقة جامدة.
ومن مقالب “وجيه” إنه كان المكلف بعمل الشاي كل ليلة، وصبه في الأكواب، وتوزيعه علي ضيوف”القعدة”،وتصادف أن كان بعض الموجودين علي خلاف معه، فأراد أن يسطلهم ويضحك منهم ويضحك الناس عليهم، انتهز فرصة عمل الشاي، وكانت سيالته ” جيب كبير في جنب الجلباب” لا تخلو ابدا من ” الدهدورة” وهي حبوب نباتية مخدرة، كانت تنتشر زراعتها في الريف،ووضعها لهم في أكواب الشاي،وبكل براءة شربوا الشاي، وما هي إلا دقائق حتي كانوا مساطيل،وكانت سهرة لا تنسي، جعلهم فيها “وجيه” بنفذون له كل طلباته، وحولهم إلي قرود يعجنون ويرقصون، وينامون نوم العاذب، باختصار تحولوا إلي قرود واصبح هو القرداتي الذي يروضهم.
كان “وجيه” ولم تكن به أي من سمات الوجاهة سوي روحه المرحة، وطيبته المتناهية، معجون من الضحك وبالنكته، إن لم يقلها علي غيره نكت وضحك أو سخر من نفسه، عن سر تسميته ب” وجيه” قال أن أبيه من كثرة فقره ورغبته في الوجاهة ،ولما وجد زوجته بتتوحم علي ولاد حلوين، حلف بالله لو جه المولود ولد هايسميه ” وجيه”، عشان يغيظ به الناسن وبدلا من أن يكون اسمه ” أبو خليل” يناديه الناس ب” أبو وجيه”.
وبمناسبة الآسماء، كان وجيه مثل ابيه مرتبطا بالأرض وبالبهائم والحمير، وحتي الأدوات الزراعية التي كان يعمل بها في أرضه، مثل المحراث، والنورج والزليقة، ولذلك قرر بعد ان تزوج أن يسمي أولاده بمثل هذه الأسماء،يقول لما اتولد ابني الأولاني رحت الوحدة الصحية عشان اسميه، قالوا لي ها تسميه إيه قلت” محرات” ساعتها الناس هناك قعدت تضحك عليا، وتقول ياراجل فيه حد يسمي ابنه كده، قلتلهم أنا حر، ولكن لما لقيتهم رافضي وما فيش فايدة، كتبته في الحكومة مجدي، ولكني كنت بقوله يا ” محرات” ولما جت البنت كنت عايز اسميها “زليقة” لإني كنت بأحب الزليقة جدا، وكنت بأبقي مبسوط والجاموسة شدة الزليقة، وأنا بأزلق الأرض، ولكنهم ضحكوا مني وعليا زي المرة الأولانية، فسميتها في الوربق اسم، وكنت بأنادي لها برضه يابت يازليقة.
رحم الله “وجيه أبو خليل” ورحم هذا الزمن الجميل، بما كان فيه من حب وخير ووفاء، وضحك من القلب،حيث كان الفلاح مرتبطا بأرضه، يحبها ويزرع حبها في قلوب أولاده وبناته، حتي أنهم كانوا يريدون أن يتسمي الآولاد والبنات بأسماء تعبر عن حبهم للأرض وكل ما يتعلق بها.
د. إسماعيل إبراهيم
ISMAIL_IBRAHIM53@YAHOO.com